حدوتة جدتي:قصة ليلى وألم التجاهل
كانت ليلى في السابعة من عمرها، طفلة مرحة، تحب أن تحكي القصص وتبتكر عوالم من الخيال داخل غرفتها الصغيرة. تعيش مع والدتها، المهندسة المعمارية، التي تعمل من المنزل في مشروع ضخم يتطلب تركيزًا لساعات طويلة.
كل صباح، كانت والدتها تجهز لها الإفطار بسرعة، وتودعها عند باب المدرسة بكلمة: “حظًا سعيدًا، حبيبتي!” ثم تعود مسرعة إلى جهاز الحاسوب، حيث ينتظرها عشرات الرسائل والمكالمات.
وعلى الرغم من أن ليلى كانت تتفهم أن ماما “تشتغل علشانها”، كما كانت تردد الأم دائمًا، فإنها كانت تتوق إلى لحظة عناق صادقة، أو استماع فعلي لما تحمله من قصص وأحلام.
في أحد الأيام، عادت ليلى من المدرسة وهي تحمل شهادة تفوق حصلت عليها بسبب تميزها في القراءة. انتظرت الأم حتى تنتهي من مكالمتها، ثم هتفت:
“ماما! شوفي! أنا أخدت شهادة!”
لكن الأم ردّت دون أن تنظر:
“برافو يا ليلى، إنتِ شاطرة دايمًا. دلوقتي ماما عندها شغل مهم، روحي علّقيها في غرفتك.”
هنا بدأ قلب ليلى يثقل. وبينما كانت تمشي إلى غرفتها، تساءلت في سرها: هل الشغل أهم مني؟ ولم تجد إجابة.
وفي اليوم التالي، تعمدت ليلى أن تنسى كراساتها في المدرسة. وعندما طلبت منها معلمتها شرحًا، قالت: “ماما ما ساعدتنيش.”
بدأت ملاحظات المدرسة تصل إلى الأم، لكن الأخيرة كانت ترد دائمًا بأن ابنتها “تمر بمرحلة مؤقتة من التمرد.”
مع مرور الوقت، بدأت تظهر على ليلى تصرفات غريبة. أحيانًا تتحدث إلى عروسة قديمة وتبكي. وأحيانًا ترفض الطعام رغم حبها له. كما بدأت تكتب جملًا على الحائط مثل: “أنا زعلانة” و”ليه ماما مش بتحبني؟”
هذه التصرفات، وإن بدت سطحية، كانت في حقيقتها صرخات صامتة تبحث عن من يسمعها.
وذات ليلة، أغلقت ليلى باب غرفتها بالمفتاح، ولم ترد على نداء والدتها. وبعد دقائق من القلق والنداء، فتحت الباب وهي باكية وقالت:
“أنا زهقت! إنتي مش بتحبيني!”
اندهشت الأم من هذا الانفجار المفاجئ. جلست على الأرض أمام ابنتها، وطلبت منها أن تشرح. قالت ليلى وهي تحاول كتمان دموعها:
“أنا دايمًا لوحدي… لما أنجح ما بتفرحيش… ولما أزعل ما بتسأليش. بحس إني مش مهمة…”
عندها، أدركت الأم أن ضغط العمل جعلها تغفل عن أهم مشروع في حياتها: “ليلى”. فأخذتها في حضن طويل وقالت:
“أنا آسفة يا بنتي… مش كنت أعرف إني بجرحك كده من غير قصد.”
منذ تلك الليلة، تغيرت أشياء كثيرة في البيت. خصصت الأم ساعة يومية للعب مع ليلى، وساعة أخرى تقرأ معها القصص. كما قررت أن تغلق الحاسوب عند الساعة السابعة مساءً، لتقضي وقتًا عائليًا هادئًا.
ليس هذا فقط، بل بدأت ليلى تشارك والدتها في بعض أعمالها، كأن ترسم معها تصميمات بسيطة، أو تبتكر أفكارًا لتزيين المكتب. وهكذا، تحول العمل من حاجز إلى جسر يقرب بينهما.
كل طفل يستحق أن يسمع
تظهر هذه القصة أن الطفل قد يترجم غياب الاهتمام إلى شعور بعدم الحب، حتى وإن كانت نية الأهل هي العكس تمامًا. إن الإصغاء الحقيقي والمشاركة الوجدانية لا يتطلبان ساعات طويلة، بل لحظات صادقة من الحضور العاطفي.
ومن هنا، فإن إدراك الأهل للمشكلات النفسية التي قد تنشأ من “الإهمال غير المقصود” هو الخطوة الأولى نحو بناء علاقة صحية، يشعر فيها الطفل بالأمان والقبول والانتماء.